فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{يوْم تكُونُ السماء كالمهل}
قيل متعلق بقريبا أو بمضمر يدل عليه {واقع} [المعارج: 1] وهو يقع أو بدل عن {في يوم} [المعارج: 4] إن علل به دون {تعرج} والنصب باعتبار أن محل الجار والمجرور ذلك إذ ليس بدلا عن المجرور وحده فاشتراط أبي حيان لمراعاة المحل كون الجار زائدا أو شبهه كرب غير صحيح ولا يحتاج تصحيح البدلية إلى التزام كون حركة يوم بنائية بناء على مذهب الكوفيين المجوزين لذلك وإن أضيف لمعرب وذكر أنه على هذه التقادير الثلاث المراد بالعذاب عذاب القيامة وأما إذا أريد عذاب الدنيا فيتعين أن يكون التقدير يوم تكون السماء يكون كيت وكيت وكأنهم لما استعجلوا العذاب أجيبوا بازف الوقوع ثم قيل ليهن ذلك في جنب ما أعد لكم يوم تكون السماء كالمهل فحينئذ يكون العذاب الذي هو العذاب ثم لا يخفى أن البدلية ممكنة على تقدير تعلق {في يوم} بـ: {تعرج} أيضا بناء على أن المراد به يوم القيامة أيضا كما قدمنا وأن الأولى عند تعلقه بـ: {قريبا} أن لا يراد من القرب من الإمكان الإمكان الذاتي لما في تقييده باليوم نوع إيهام وأن ضميري {يرونه} و{نراه} إذا كانا ليوم القيامة يلزم وقوع الزمان في الزمان في قولنا يقع يوم القيامة يوم تكون كالمهل ويجاب بما لا يخفى وجوز في البحر كونه بدلا من ضمير {نراه} إذا كان عائدا على يوم القيامة وفي الارشاد كونه متعلقا بـ: {ليس له دافع} وبعضهم كونه مفعولا به لا ذكر محذوفا وتعلقه بـ: {نراه} كما قاله مكي لا نراه وكذا تعلقه بـ: {يبصرونهم} كما حكاه ومثله ما عسى أن يقال متعلقه بـ: {يود} الآتي بعد فتأمل.
والمهل أخرج أحمد والضياء في المختارة وغيرهما عن ابن عباس أنه دردي الزيت وهو ما يكون في قعره وقال غير واحد المهل ما أذيب على مهل من الفلزات والمراد يوم تكون السماء واهية.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية أن السماء الآن خضراء وأنها تحول يوم القيامة لونا آخر إلى الحمرة.
{وتكُونُ الجبال كالعهن} كالصوف دون تقييد أو الأحمر أو المصبوغ ألوانا أقوال واختار جمع الأخير وذلك لاختلاف ألوان الجبال فمنها جدد بيض وحمر وغرابيب سود فإذا بست وطيرت في الجو اشبهت العهن أي المنفوش كما في القارعة إذا طيرته الريح وعن الحسن تسير الجبال مع الرياح ثم ينهد ثم تصير كالعهن ثم تنسف فتصير هباء.
{ولا يسْئلُ حمِيمٌ حمِيما} أي لا يسأل قريب مشفق قريبا مشفقا عن حاله ولا يكلمه لابتلاء كل منهم بما يشغله عن ذلك أخرجه ابن المنذر وعبد بن حميد عن قتادة وفي رواية أخرى عنه لا يسأله عن حاله لأنها ظاهرة وقيل لا يسأله أن يحمل عنه من أوزاره شيئا ليأسه عن ذلك وقيل لا يسأله شفاعة وفي البحر لا يسأله نصره ولا منفعته لعلمه أنه لا يجد ذلك عنده ولعل الأول أبلغ في التهويل وأيا ما كان فمفعول {يسأل} الثاني محذوف وقيل {حميما} منصوب بنزع الخافض أي لا يسأل حميم عن حميم وقرأ أبو حيوة وشيبة وأبو جعفر والبزي بخلاف عن ثلاثتهم {ولا يسأل} مبنيا للمفعول أي لا يطلب من حميم حميم ولا يكلف إحضاره أو لا يسأل منه حاله وقيل لا يسأل ذنوب حميمه ليؤخذ بها.
{يُبصّرُونهُمْ} أي يبصر الإحماء الاحماء فلا يخفون عليهم وما يمنعهم من التساؤل إلا اشتغالهم بحال أنفسهم وقيل ما يغني عنه من مشاهدة الحال كبياض الوجه وسواده ولا يخفى حاله و{يبصرونهم} قيل من بصرته بالشيء إذا أوضحته له حتى يبصره ثم ضمن معنى التعريف أو حذف الصلة أيضا لا وجمع الضميرين لعموم الحميم والجملة استئناف كأنه لما قيل لا يسأل إلخ قيل لعله لا يبصره فقيل يبصرونهم وجوز أن تكون صفة أي حميما مبصرين معرفين إياهم وأن تكون حالا أما من الفاعل أو من المفعول أو من كليهما ولا يضر التنكير لمكان العموم وهو مسوغ للحالية ورجحت على الوصفية بأن التقييد بالوصف في مقام الإطلاق والتعميم غير مناسب وليس فيها ذلك فلا تغفل.
وقرأ قتادة {يبصرونهم} مخففا مع كسر الصاد أي يشاهدونهم {يودُّ المجرم} أي يتمنى الكافر وقيل كل مذنب وقوله تعالى: {لوْ يفْتدِي مِنْ عذابِ يوْمِئِذٍ} أي العذاب الذي ابتلى به يومئذ {بِبنِيهِ}.
{وصاحبته وأخِيهِ} حكاية لودادتهم ولو في معنى التمني وقيل هي بمنزلة أن الناصبة فلا يكون لها جواب وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا لـ: {يود} والتقدير يود افتداءه ببنيه إلخ والجملة استئناف لبيان أن إشغال كل مجرم بنفسه بلغ إلى حيث يتمنى أن يفتدي بأقرب الناس إليه وأعلقهم بقلبه فضلا أن يهتم بحاله ويسأل عنها وجوز أن تكون حالا من ضمير الفاعل على فرض أن يكون هو السائل فإن فرض أن السائل المفعول فهي حال من ضميره وقيل الظاهر جعلها حالا من ضمير الفاعل لأنه المتمني وأيا ما كان فالمراد يود المجرم منهم وقرأ نافع والكسائي كما في أنوار التنزيل والأعرج {يومئذ} بالفتح على البناء للإضافة إلى غير متمكن وقرأ أبو حيوة كذلك وبتنوين {عذاب} فـ: {يومئذ} حينئذ منصوب بـ: {عذاب} لأنه في معنى تعذيب.
{وفصِيلتِهِ} أي عشيرته الأقربين الذين فصل عنهم كما ذكره غير واحد ولعله أولى من قول الراغب عشيرته المنفصلة عنه وقال ثعلب فصيلته آباؤه الأدنون وفسر أبو عبيدة الفصيلة بالفخذ {التى} أي تضمه انتماء إليها أو لياذا بها في النوائب.
{تُوِيهِ ومن في الأرض جمِيعا} من الثقلين الإنس والجن أو الخلائق الشاملة لهم ولغيرهم ومن للتغليب {ثُمّ يُنجِيهِ} عطف على {يفتدي} والضمير المرفوع للمصدر الذي في ضمن الفعل أي يود لو {يفتدي} ثم لو ينجيه الافتداء وجوز أبو حيان عود الضمير إلى المذكور والزمخشري عوده إلى من في الأرض ثم الاستبعاد الانجاء يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك وهيهات وقرأ الزهري {تؤويه} و{ينجيه} بضم الهائين.
{كلاّ} ردع للمجرم عن الودادة وتصريح بامتناع الانجاء وضمير {أنّها} للنار المدلول عليها بذكر العذاب وقوله تعالى: {لظى} خبر إن وهي علم لجهنم أو للدركة الثانية من دركاتها منقول من اللظى بمعنى اللهب الخالص ومنع الصرف للعلمية والتأنيث وجوز أن يراد اللهب على المبالغة كان كلها لهب خالص وحذف التنوين إما لإجراء الوصل مجرى الوقف أو لأنه علم جنس معدول عما فيه اللام كسحر إذا أردت سحرا بعينه وقوله تعالى: {نزّاعة للشوى} أي الأطراف كاليد والرجل كما أخرجه ابن المنذر وابن حميد عن مجاهد وأبي صالح وقاله الراغب وغيره وقيل الأعضاء التي ليست بمقتل ولذا يقال رمى فاشوى إذا لم يقتل أو جمع شواة وهي جلدة الرأس وأنشدوا قول الأعشى:
قالت قُتيْلةُ ماله قد ** جللت شيبا شواته

وروى هذا عن ابن عباس وقتادة وقرة بن خالد وابن جبير وأخرجه ابن أبي شيبة عن مجاهد وأخرج هو عن أبي صالح والسدي تفسيرها بلحم الساقين وعن ابن جبير العصب والعقب وعن أبي العالية محاسن الوجه وفسر نزعها لذلك بأكلها له فتأكله ثم يعود وهكذا نصب بتقدير أعني أو أخص وهو مراد من قال نصب على الاختصاص للتهويل وجوز أن يكون حالا والعامل فيها {لظى} وإن كان علما لما فيه من معنى التلظي كما عمل العلم في الظرف في قوله:
أنا أبو المنهال بعض الأحيان

أي المشهور بعض الأحيان قاله أبو حبان وإليه يشير كلام الكشف وقال الخفاجي {لظى} بمعنى متلظية والحال من الضمير المستتر فيها لا منها بالمعنى السابق لأنها نكرة أو خبر وفي مجيء الحال من مثله ما فيه وقيل هو حال مؤكدة كما في قوله:
أنا ابن دارة معروفا بها نسبى ** وهل بدارة يا للناس من عار

والعامل أحقه أو الخبر لتأويله بمسمى أو المبتدأ لتضمنه معنى التنبيه أو معنى الجملة وارتضاء الرضى وقيل حال من ضمير {تدعوا} قدم عليه وجوز الزمخشري أن يكون ضمير أنها مبهما ترجم عنه الخبر أعني {لظى} وبحث فيه بما رده المحققون وقرأ الأكثرون {نزّاعة} بالرفع على أنه خبر ثان (لاِنْ) أو صفة لـ {لظى} وهو ظاهر على اعتبار كونها نكرة وكذا على كونها علم جنس لأنه كالمعرف بلام الجنس في إجرائه مجرى النكرة أو هو الخبر و{لظى} بدل من الضمير وإن اعتبرت نكرة بناء على أن إبدال النكرة غير منعوتة من المعرفة قد أجازه أبو علي وغيره من النحاة إذا تضمن فائدة كما هنا وجوز على هذه القراءة أن يكون ضمير أنها للقصة و{لظى} مبتدأ بناء على أنه معرفة و{نزّاعة} خبره وقوله تعالى: {تدْعُواْ} خبر مبتدأ مقدر أو حال متداخلة أو مترادفة أو مفردة أو خبر بعد خبر على قراءة الرفع فلا تغفل والدعاء على حقيقته وذلك كما روى عن ابن عباس وغيره يخلق الله تعالى فيها القدرة على الكلام كما يخلقه في جلودهم وأيديهم وأرجلهم فتناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وروى أنها تقول لهم إلى إلى يا كافر يا منافق وجوز أن يراد به الجذب والإحضار كما في قول ذي الرمة يصف الثور الوحشي:
أمسى بوهبين مجتازا لمرتعة ** من ذي الفوارس تدعو أنفه الربب

ونحوه قوله أيضا:
ليالي اللهو يطيبني فأتبعه ** كأنني ضارب في غمرة لعب

ولا يبعد أن يقال شبه لياقتها لهم أو استحقاقهم لها على ما قيل بدعائها لهم فعبر عن ذلك بالدعاء على سبيل الاستعارة وقال ثعلب تدعو تهلك من قول العرب دعاك الله تعالى أي أهلكك وحكاه الخليل عنهم وفي الأساس دعاه الله تعالى بما يكره أنزله به وأصابتهم دواعي الدهر صروفه ومن ذلك قوله:
دعاك الله من رجل بافعى ** إذا ناما العيون سرت عليكا

واستظهر أنه معنى حقيقي للدعاء لكنه غير مشهور وفيه تردد وجوز أن يكون الدعاء لزبانيتها وأسند إليها مجازا أو الكلام على تقدير مضاف أي تدعو زبانينها {منْ أدْبر} في الدنيا عن الحق {وتولى} أعرض عن الطاعة.
{وجمع فأوْعى} أي جمع المال فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤد حقوقه وتشاغل به عن الدين زها باقتنائه حرصا وتأميلا وهذا إشارة إلى كفار أغنياء وما أخوف عبد الله بن عكيم فقد أخرج ابن سعيد عن الحكم أنه قال كان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله تعالى يقول: {وجمع فأوعى}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يوْم تكُونُ السّماءُ كالْمُهْلِ (8)}
يجوز أن يتعلق {يوم تكون السماء} بفعل {تعرج} [المعارج: 4]، أو أن يتعلق بـ {يودُّ المجرم} قدم عليه للاهتمام بذكر اليوم فيكون قوله: {يوم تكون السماء كالمهل} ابتداء كلام، والجملة المجعولة مبدأ كلام تجعل بدل اشتمال من جملة {ولا يسأل حميم حميما} لأن عدم المساءلة مسبب عن شدة الهول، ومما يشتمل عليه ذلك أن يود المول لو يفتدي من ذلك العذاب.
و{المُهل}: دُردِيّ الزيتتِ.
والمعنى: تشبيه السماء في انحلال أجزائها بالزيت، وهذا كقوله في سورة الرحمان (37) {فكانت وردة كالدِهان}
والعِهن: الصوف المصبوغ، قيل المصبوغ مطلقا، وقيل المصبوغ ألوانا مختلفة وهو الذي درج عليه الراغب والزمخشري، قال زهير:
كان فُتات العِهن في كل منزِلٍ ** نزلْن به حبُّ الفنا لم يُحطّم

والفنا بالقصر: حب في البادية، يقال له: عنب الثعلب، وله ألوان بعضه أخضر وبعضه أصفر وبعضه أحمر.
والعهنة: شجر بالبادية لها ورد أحمر.
ووجه الشبه بالعهن تفرق الأجزاء كما جاءت في آية القارعة (5) {وتكون الجبال كالعهن المنفوشِ} فإيثار العهن بالذكر لإِكمال المشابهة لأن الجبال ذات ألوان قال تعالى: {ومن الجبال جُدد بيضٌ وحُمْرٌ مختلف ألوانها} [فاطر: 27].
وإنما تكون السماء والجبال بهاته الحالة حين ينحلّ تماسك أجزائهما عند انقرأض هذا العالم والمصيرِ إلى عالم الآخرة.
ومعنى {ولا يسأل حميم حميما} لشدة ما يعتري الناس من الهول فمن شدة ذلك أن يرى الحميم حميمه في كرب وعناء فلا يتفرغ لسؤاله عن حاله لأنه في شاغل عنه، فحذف متعلق {يسأل} لظهوره من المقام ومن قوله: {يبصرونهم} أي يبصر الأخلاء أحوال أخلائهم من الكرب فلا يسأل حميم حميما، قال كعب بن زهير:
وقال كل خليل كنتُ ءآمُله ** لا أُلْهِينّك إِني عنك مشغول

والحميم: الخليل الصديق.
وقرأ الجمهور بفتح ياء {يسأل} على البناء للفاعل.
وقرأه أبو جعفر والبزي عن ابن كثير بضم الياء على البناء للمجهول.
فالمعنى: لا يسأل حميم عن حميم بحذف حرف الجر.
وموقع {يبصّرونهم} الاستئناف البياني لدفع احتمال أن يقع في نفس السامع أن الأحِمّاء لا يرى بعضهم بعضا يومئذٍ لأن كل أحد في شاغل، فأجيب بأنهم يكشف لهم عنهم ليروا ما هم فيه من العذاب فيزدادوا عذابا فوق العذاب.
ويجوز أن تكون جملة {يبصرونهم} في موضع الحال، أي لا يسأل حميم حميما في حال أن كل حميم يبصر حميمه يقال له: انظر ماذا يقاسي فلان.
و{يبصرونهم} مضارع بصّره بالأمر إذا جعله مبصرا له، أي ناظرا فأصله: يبصّرون بهم فوقع فيه حذف الجار وتعدية الفعل.
والضميران راجعان إلى {حميم} المرفوع وإلى {حميما} المنصوب، أي يبصر كل حميم حميمه فجمع الضميران نظرا إلى عموم {حمِيمٌ} و{حميما} في سياق النفي.
و{يودّ}: يحب، أي يتمنى، وذلك إما بخاطر يخطر في نفسه عند رؤية العذاب.
وإما بكلام يصدر منه نظير قوله: {ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا} [النبأ: 40]، وهذا هو الظاهر، أي يصرخ الكافر يومئذٍ فيقول: أفتدي من العذاب ببني وصاحبتي وفصيلتي فيكون ذلك فضيحة له يومئذٍ بين أهله.
و{المجرم}: الذي أتى الجُرم، وهو الذنب العظيم، أي الكفر لأن الناس في صدر البعثة صنفان كافر ومؤمن مطيع.
و{يومئذٍ} هو {يوم تكون السماء كالمهل} فإن كان قوله: {يوم تكون السماء} متعلقا بـ {يودّ} فقوله: {يومئذٍ} تأكيد لـ {يوم تكون السماء كالمهل} وإن كان متعلقا بقوله: {تعرج الملائكة} [المعارج: 4] فقوله: {يومئذٍ} إفادة لكون ذلك اليوم هو يوم يود المجرم لو يفتدي من العذاب بمن ذكر بعده.
و{لو} مصدرية فما بعدها في حكم المفعول لـ {يود}، أي يود الافتداء من العذاب ببنيه إلى آخره.
وقرأ الجمهور {يومئذٍ} بكسر ميم (يوم) مجرورا بإضافة (عذاب الله).
وقرأه نافع والكسائي بفتح الميم على بنائه لإِضافة (يوم) إلى (إذ)، وهي اسم غير متمكن والوجهان جائزان.
والافتداء: إعطاء الفِداء، وهو ما يعطى عوضا لإِنقاذٍ من تبعةٍ، ومنه قوله تعالى: {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم} في البقرة (85) وقوله: {ولو افتدى به} في آل عمران (91)، والمعنى: لو يفتدي نفسه، والباء بعد مادة الفداء تدخل على العوض المبذول فمعنى الباء التعويض.
ومعنى {مِن} الابتداء المجازي لتضمين فعل يفتدي معنى يتخلص و{صاحبِته}: زوجِهِ.
والفصيلة: الأقرباء الأدْنوْن من القبيلة، وهم الأقرباء المفصول مِنهم، أي المستخرج منهم، فشملت الآباء والأمهاتتِ قال ابن العربي: قال أشهب: سألتُ مالكا عن قول الله تعالى: {وفصيلته التي تؤويه} فقال هي أمه أهـ.
أي ويفهم منها الأب بطريق لحن الخطاب فيكون قد استوفى ذكر أقرب القرابة بالصراحة والمفهوم، وأمّا على التفسير المشهور فالفصيلة دلت على الآباء باللفظ وتستفاد الأمهات بدلالة لحن الخطاب.
وقد رتبت الأقرباء على حسب شدة الميْل الطبيعي إليهم في العرف الغالب لأن الميل الطبيعي ينشأ عن الملازمة وكثرة المخالطة.
ولم يذكر الأبوان لدخولهما في الفصيلة قصدا للإِيجاز.
والايواء: الضم والانحياز.
قال تعالى: {ءاوى إليه أخاه} [يوسف: 69] وقال: {سآوي إلى جبل} [هود: 43].
و{التي تؤويه} إن كانت القبيلة، فالإِيواء مجاز في الحماية والنصر، أي ومع ذلك يفتدي بها لعلمه بأنها لا تغني عنه شيئا يومئذٍ.
وإن كانت الأمّ فالإِيواء على حقيقته باعتبار الماضي، وصيغة المضارع لاستحضار الحالة كقوله: {الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا} [الروم: 48] أي يودّ لو يفتدي بأمه، مع شدة تعلق نفسه بها إذ كانت تؤويه، فإيثار لفظ فصيلته وفعل تؤويه هنا من إيجاز القرآن وإعجازه ليشمل هذه المعاني.
{ومن في الأرض جميعا} عطف على {بنِيه}، أي ويفتدي بمن في الأرض، أي ومن له في الأرض مما يعزّ عليه من أخلاء وقرابة ونفائس الأموال مما شأن الناس الشح ببذله والرغبة في استبقائه على نحو قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم مِلْءُ الأرض ذهبا ولو افتدى به} [آل عمران: 91].
و{من} الموصولة لتغليب العاقل على غيره لأن منهم الأخلاء.
و{ثم} في قوله: {ثم ينجيه} للتراخي الرتبي، أي يودّ بذل ذلك وأن ينجيه الفداء من العذاب، فالإِنجاء من العذاب هو الأهم عند المجرم في ودادته والضمير البارز في قوله: {ينجيه} عائد إلى الافتداء المفهوم من {يفتدي} على نحو قوله تعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8].
والمعطوف بـ {ثم} هو المسبب عن الودادة فلذلك كان الظاهر أن يعطف بالفاء وهو الأكثر في مثله كقوله تعالى: {ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكُونون سواء} [النساء: 89] وقوله: {ودُّوا لو تدهن فيدهنون} [القلم: 9]، فعدل عن عطفه بالفاء هنا إلى عطفه بـ {ثم} للدلالة على شدة اهتمام المجرم بالنجاة بأية وسيلة.
ومتعلق {ينجيه} محذوف يدل عليه قوله: {من عذاب يومئذٍ}.
{وكلاّ} حرف ردع وإبطال لكلام سابق، ولا يخلو من أن يذكر بعده كلام، وهو هنا لإِبطال ما يخامر نفوس المجرم من الودادة، نزل منزلة الكلام لأن الله مطلع عليه أو لإِبطال ما يتفوه به من تمنّي ذلك.
قال تعالى: {ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا} [النبأ: 40]، ألا ترى أنه عبر عن قوله ذلك بالودادة، في قوله تعالى: {يومئذٍ يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض} [النساء: 42] أي يصيرون من ترابها.
فالتقدير: يقال له كلا، أي لا افتداء ولا إنجاء.
وجملة {إنها لظى} استئناف بياني ناشئ عما أفاده حرف {كلا} من الإِبطال.
وضمير {إنها} عائد إلى ما يشاهده المجرم قبالته من مرأى جهنم فأخبر بأن ذلك لظى.
ولما كان {لظى} مقترنا بألف التأنيث أنّث الضمير باعتبار تأنيث الخبر واتبع اسمها بأوصاف.
والمقصود التعريض بأنها أعدت له، أي أنها تحرقك وتنزع شواك، وقد صرح بما وقع التعريض به في قوله: {تدعو من أدبر وتولى وجمع فأوعى} أي تدعوك يا من أدبر عن دعوة التوحيد وتولى عنها ولم يعبأ إلاّ بجمع المال.
فحرف (إنّ) للتوكيد للمعنى التعريضي من الخبر، لا إلى الإِخبار بأن ما يشاهده لظى إذ ليس ذلك بمحل التردد.
و{لظى} خبر (إن).
ويجوز أن يكون ضمير {إنها} ضمير القصة وهو ضمير الشأن، أي إن قصتك وشأنك لظى، فتكون {لظى} مبتدأ.
وقرأ الجمهور {نزّاعةٌ} بالرفع فهو خبر ثان عن (إنّ) إن جعل الضمير ضميرا عائدا إلى النار المشاهدة، أو هو خبر عن {لظى} إن جعل الضمير ضمير القصة وجُعل {لظى} مبتدأ.
وقرأه حفص بالنصب على الحال فيتعين على قراءة حفص أن الضمير ليس ضمير قصة.
والتعريض هو هو، وحرف (إنّ) إما للتوكيد متوجها إلى المعنى التعريضي كما تقدم، وإما لمجرد الاهتمام بالجملة التي بعده لأن الجمل المفتتحة بضمير الشأن من الأخبار المهتم بها.
و{لظى}: علم منقول من اسم اللهب، جعل علما لـ {جهنم}، وألفه ألف تأنيث، وأصله: لظى بوزن فتى منونا اسم جنس للهب النار.
فنقل اسم الجنس إلى جعله علما على واحد من جنسه، فقرن بألف تأنيث تنبيها بذلك التغيير على نقله إلى العلمية.
والعرب قد يدخلون تغييرا على الاسم غير العلم إذا نقلوه إلى العلمية كما سموا شُمْس بضم الشين منقولا من شمْس بفتح الشين.
كما قال ابن جني في شرح قول تأبط شرا:
إني لمهد من ثنائي فقاصدٌ ** به لابنِ عمِّ الصِدِق شُمْسِ بنِ مالك

وليس من العلم بالغلبة إذ ليس معرفا ولا مضافا، ولاجتماع العلمية والتأنيث فيه كان ممنوعا من الصرف فلا تقول: لظى بالتنوين إلاّ إذا أردت جنس اللهب، ولا تقول: اللّظى إلاّ إذا أردت لهبا معينا، فأما إذا أردت اسم جهنم فتقول لظى بألف التأنيث دون تنوين ودون تعريف.
والنّزاعة: مبالغة في النزع وهو الفصل والقطع.
والشوى: اسم جمع شواة بفتح الشين وتخفيف الواو، وهي العضو غيرُ الرأس مثل اليد والرجل فالجمع باعتبار ما لكل أحد من شوى، وقيل الشواة: جلْدة الرأس فالجمع باعتبار كثرة الناس.
وجملة {تدعو} إما خبر ثان حسب قراءة {نزّاعة} بالرفع وإمّا حال على القراءتين.
والدعاء في قوله: {تدعو} يجوز أن يكون غير حقيقة بأن يعتبر استعارة مكنية، شبهت لظّى في انهيال الناس إليها بضائف لمأدُبة، ورُمز إلى ذلك بـ {تدعو} وذلك على طريقة التهكم.
ويكون {من أدبر وتولى وجمع فأوعى} قرينة، أو تجريدا، أي من أدبر وتولى عن الإِيمان بالله.
وفيه الطباق لأن الإِدبار والتولي يضادّاننِ الدعوة في الجملة إذ الشأن أن المدعو يقبل ولا يدبر، ويكون (يدعوا) مشتقا من الدُعوة المضمومة الدال، أو أن يشبه إحضار الكفار عندها بدعوتها إياهم للحضور على طريقة التبعية، لأن التشبيه بدعوة المنادي، كقول ذي الرمة يصف الثور الوحشي:
أمسى بوهْبيْننِ مُخْتارا لِمرْتعه ** من ذي الفوارس تدعُو أنفه الرِّببُ

الرِّبب بكسر الراء وبموحدتين: جمع رِبّة بكسر الراء وتشديد الموحدة: نبات ينبت في الصيف أخضرُ.
ويجوز أن يكون {تدعو} مستعملا حقيقة، و{الذين يدْعون}: هم الملائكة الموكلون بجهنم، وإسنادُ الدعاء إلى جهنم إسنادا مجازيا لأنها مكان الداعين أو لأنها سبب الدعاء، أو جهنم تدعو حقيقة بأن يخلُق الله فيها أصواتا تنادي الذين تولوا أن يرِدوا عليها فتلتهمهم.
و{من أدبر وتولى وجمع فأوعى} جنس الموصوفين بأنهم أدبروا وتولوا وجمعوا وهم المجرمون الذين يودون أن يفتدوا من عذاب يومئذٍ.
وهذه الصفات خصائص المشركين، وهي من آثار دين الشرك التي هي أقوى باعث لهم على إعراضهم عن دعوة الإِسلام.
وهي ثلاثة: الإِدبار والإِعراض، وجمع المال، أي الخشية على أموالهم.
والإِدبار: ترك شيء في جهة الوراء لأن الدّبر هو الظهر، فأدبر: جعل شيئا وراءه بأن لا يعرج عليه أصلا أو بأن يقبل عليه ثم يفارقه.
والتولّي: الإِدبار عن شيء والبعد عنه، وأصله مشتق من الولاية وهي الملازمة قال تعالى: {فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 144]، ثم قالوا: ولّى عنه، أرادوا اتخذ غيره وليا، أي ترك ولايته إلى ولاية غيره مثل ما قالوا: رغب فيه ورغب عنه، فصار (ولي) بمعنى: أدبر وأعرض، قال تعالى: {فأعْرض عمن تولّى عن ذِكرنا} [النجم: 29] أي عامِلْه بالإِعراض عنه.
ففي التولي معنى إيثار غير المتولّى عنه، ولذلك يكون بين التولّي والإِدبار فرق، وباعتبار ذلك الفرق عُطف و{تولّى} على {أدبر} أي تدعو من ترك الحق وتولى عنه إلى الباطل.
وهذه دقيقة من إعجاز القرآن بأن يكون الإِدبار مرادا به إدبار غير تول، أي إدبارا من أول وهلة، ويكون التولي مرادا به الإِعراض بعد ملابسة، ولذلك يكون الإِدبار مستعارا لعدم قبول القرآن ونفي استماع دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حال الذين قال الله فيهم: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن} [فصلت: 26]، والتولي مستعار للإِعراض عن القرآن بعد سماعه وللنفور عن دعوة الرسول كما قال تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأولين} [الأنفال: 31] وكلا الحالين حال كفر ومحقة للعقاب وهما مجتمعتان في جميع المشركين.
والمقصود من ذكرهما معا تفظيع أصحابهما، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون متعلِّق {أدبر وتولى} متّحدا يتنازعه كلا الفعلين، ويقدر بنحو: عن الحق، وفي (الكشاف): أدبر عن الحق وتولى عنه، إذ العبرة باختلاف معنيي الفعلين وإن كان متعلقهما متحدا.
ويجوز أن يقدر لكل فعل متعلِّقٌ هو أشد مناسبة لمعناه، فقدر البيضاوي: أدبر عن الحق وتولى عن الطاعة، أي لم يقبل الحق وهو الإِيمان من أصله، وأعرض عن طاعة الرسول بعد سماع دعوته.
وعن قتادة عكسه: أدبر عن طاعة الله وتولى عن كتاب الله وتبعه الفخر والنيسابوري.
والجمع والإِيعاء في قوله: {وجمع فأوعى} مرتب ثانيهما على أولهما، فيدل ترتب الثاني على الأول أن مفعول {جمع} المحذوف هو شيء مما يوعى، أي يُجعل في وعاء.
والوعاء: الظرف، أي جمع المال فكنزه ولم ينفع به المحاويج، ومنه جاء فعل {أوعى} إذا شحّ.
وفي الحديث: «ولا تُوعي فيُوعى عليك».
وفي قوله: {جمع} إشارة إلى الحرص، وفي قوله: {فأوعى} إشارة إلى طول الأمل.
وعن قتادة {جمع فأوعى} كان جمُوعا للخبيث، وهذا تفسير حسن، أي بأن يُقدّر لـ {جمع} مفعول يدل عليه السياق، أي وزاد على إدباره وتوليه أنه جمع الخبائث.
وعليه يكون {فأوعى} مستعارا لملازمته ما فيه من خصال الخبائث واستمراره عليها فكأنها مختزنة لا يفرط فيها. اهـ.